فى مثل هذه الأيام من نهاية شهر سبتمبر عام 1968، لم تكن مصر تحتفل بإنجاز عادى، بل كانت تكتب فصلًا جديدًا فى تاريخ الحضارة الإنسانية بإنقاذ معبدى أبو سمبل من الغرق بعد بناء السد العالى وارتفاع منسوب مياه بحيرة ناصر. مثلت تلك اللحظة الفارقة تجسيدًا لإرادة المصريين وقدرتهم على مواجهة التحديات، كما رسخت مكانة مصر كحامية للتراث الإنسانى، مؤكدة أن الحفاظ على التاريخ هو حفاظ على الهوية والذاكرة المشتركة للبشرية.
رغم مرور أكثر من نصف قرن، لا تزال هذه الذكرى محفورة فى وجدان المصريين، ولا يزال معبد أبو سمبل شامخًا يروى قصة كفاح نادرة بطلها الإنسان المصرى بالتعاون مع المجتمع الدولى.
بداية القصة.. خطر الغرق يهدد آثار النوبة
مع إعلان بناء السد العالى فى ستينيات القرن الماضى، واجهت مصر خطر غرق عشرات المعابد والآثار النوبية تحت مياه بحيرة ناصر. كان على الدولة الاختيار بين التنمية الاقتصادية المتمثلة فى السد العالى أو إنقاذ تراثها الفرعونى الفريد. لكن الإرادة المصرية اختارت الجمع بين الاثنين، لتبدأ أعظم حملة إنقاذ أثرى فى القرن العشرين.
أطلق علماء الآثار تحذيرات عاجلة، ودعت مصر منظمة اليونسكو إلى المساعدة، فاستجابت سريعًا وأطلقت الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة عام 1960.
اليونسكو والعالم فى خدمة التراث الإنسانى
شاركت أكثر من 50 دولة فى هذه الحملة بخبرائها وتمويلها ومعداتها، فى مشهد تضامن عالمى نادر لإنقاذ تراث لا يخص مصر وحدها، بل الإنسانية كلها. بدأت الحملة رسميًا عام 1960، وتواصلت حتى عام 1968، حيث جرى تقطيع معبد أبو سمبل إلى أكثر من 1000 كتلة حجرية ضخمة، وإعادة تركيبه فى موقع جديد يعلو منسوب المياه بحوالى 65 مترًا، لضمان سلامته الدائمة.
وفى 22 سبتمبر 1968، أعلنت مصر رسميًا اكتمال عملية الإنقاذ التاريخية، التى وصفت بأنها معجزة هندسية وأثرية لا تقل عظمة عن بناء المعبد نفسه قبل أكثر من 3200 عام.
تفاصيل أعظم عملية إنقاذ أثرى فى التاريخ
كان التحدى الأكبر هو كيفية التعامل مع التماثيل العملاقة التى يصل وزن بعضها إلى أكثر من 30 طنًا، لذلك تم استخدام مناشير ضخمة لتقطيع المعبد بدقة، ثم إعادة تركيبه بحيث تظل ظاهرة تعامد الشمس مرتين سنويًا كما كانت منذ عهد رمسيس الثانى، فى مشهد يرمز إلى الخلود والدقة الهندسية الفائقة.
وأكد الدكتور أحمد مسعود، مدير آثار أبو سمبل، أن ما حققه المهندسون والأثريون لم يكن مجرد إنقاذ لمعبد، بل كان تجسيدًا لعبقرية الإنسان المصرى وتعاونه مع العالم، مما جعل أبو سمبل رمزًا عالميًا للوحدة الثقافية والإنسانية.
وأضاف أن الزوار الذين يأتون اليوم من مختلف دول العالم لا يشاهدون فقط روعة فن رمسيس الثانى وزوجته نفرتارى، بل يعيشون قصة كفاح فريدة جعلت من المعبد رمزًا خالدًا للتعاون بين الشعوب، ودليلًا على أن الحفاظ على التراث هو حماية للمستقبل.
مركز توثيق الحملة الدولية لإنقاذ معبدى أبو سمبل
أنشأت وزارة السياحة والآثار مركزًا لتوثيق الحملة الدولية لإنقاذ معبدى أبو سمبل، وتم افتتاحه فى ديسمبر 2016، ويضم 21 لوحة جرافيك و18 فاترينة عرض، ومعمل تحميض صور، وحديقة متحفية، ومجموعة من المعدات والأدوات التى استخدمتها بعثة اليونسكو فى عملية الإنقاذ، لتبقى هذه التجربة درسًا خالدًا فى العزيمة والإبداع الإنسانى.